منْ (عزّ النوْم ) وحَرائقُ شهيّة .. !


البارحة ومنْ (عزّ النوم ) أيْقظني صوتُ مطر جبّار .. البطل سُمعة كان مصاباً بحفلة في رأسه وظلّ يُغني طيلة الليْل ..

حين صحوتُ فزعة وجدتُه يقلد صوْت الماء السّاقط من الأعْلى بعد أنْ أزاح طرف السّتارة ويتتبعُ بيده النّدى الذي على زُجاج النّافذة .. !

برأس ثقيل سحبتُ أقدامي حتّى وقفتُ إلى جانبه ..

بقينا هكذا إلى أن انْقضتْ العتْمة ..

هذا الصّباح، الطرقات مُبتلة .. والقلة التي بقيتْ في المدينة يقطعُونالأرصِفة بأحْذية ذاتَ أعْناق طويلة وأنْفاس باردة ..

***

قبْل فترة شاهدتُ تقريراً صحفياً على قناة كينية يتحدثُ عنْ فقراء يكتسبُون قوت يومهم منْ جمع العُلب المعدنية والأكياس من القُمامات ..

مُنذها وكلّ ما أتعبتْني هذه الانتظاراتُ والطرق السّبخة التي لا تنْتهي تذكرتُ تلك الشابة التي لقطتْها الكاميرا مُنكفئة على كوْمة من النّفايات يسْألها المُراسل عنْ شُعورها تجاه ما تقوم به .. ترْفعُ رأسها وعلى وجْهها ابتسامة مُضيئة .. أشارتْ إلى طيور كبيرة الحجْم مُنكفئة أيضاً على بُعد مسافة وقالتْ: “حتّى الطيور تفعلُ مثلي .. الأمْر ليْس بذلك السّوء” .. ثم تسْتمر في جمْع العُلبْ .. !

أتذكُرها كيْ أدفع بمزيدٍ من الحياة إلى قلبي ..

واشتعالاً إلى هذا الكوب أمامي .. وتلك الأغْنية التي خفُتَ صوْتها في ذاكرتي .. وإلى كلّ شيْء بدأتْ ألوانه تسيلُ على نحْو جنائزي ..

لا زالتْ في الرّوح بقيّة .. بقيةٌ عظيمة ..!

***

اعتدتُ في طريق عوْدتي مساءً المُرور بجانب فرْقة تعزفُ بالتّاون على مقربة منْ محطة الحافلات (Aafia Center)..

بالسّابق كانتْ الطبلة أداتهُم الوحيدة .. يفترشُون الأرْض على نحْو مُرتب ويجيدون اصْدار أصوات تفرضُ رقصَة جميلة على خصْرك ومزاجِك ..

بالأمْس فوجئتُ بأنّ عددهم قدْ زاد واخْتلفت الآلات .. بأيديهم جيتار وكمنْجات وأشّياء أخْرى لا أعرفُ أسْمائها ..

اللحْن أشْجاني .. وظننتُ أنّ الأوْتار هيَ ضُلوعي ..

في البدْء توقفتُ أسجّل عزْفهم .. لمْ أنتبه إلا وأنا أغنّي شيئاً بقيَ في أذُني منْ أغنية سمعتُها قديماً ولا أذكر اسْمها ..

بداخلي بيْتي القديم .. بيْتي الذي لمْ أعرفُه بعد ..

اسْتمروا هُم بالعزْف .. وأنا أكملتُ غنائي وسَط دهْشة المارّة منْ هذه العابرة المجْنونة ..

طرأتْ لي عبارةٌ قديمة كنتُ أردّدُها حين أشْعر بحَرج : ” الي يعرف جدي يروح يعايره ” .. ولمْ أبال بأحدْ .. !

بعد أنْ وصلتُ إلى بوابة المُجمع السّكني صادفتُ “Mowala”، صبيٌّ في السّادسة عشر تقريباً يُساعد المُستأجرين في شِراء الحاجيّات من البقاليّة القريبة ..

سألتُه عن الحال وتبادلنا حديثاً قصيراً ..

هذا الصّبي عادة يذهبُ لقريته في هذه المُناسبة لكنّه لمْ يفعل هذا العام ..

***

مرّة أخْبرني صديق بأنّ عصافيراً عذْبة تُوقظه كلّ صباح .. يقفُون على الشّرفة ويبْدؤون بالصّراخ والزقْزقة ..

لديّ قصةٌ مُشابهة مع فراشات تحطّ مساءً على النّافذة الصّغيرة بعْد أنْ أشعل النّور في غُرفة الاسْتحمام – نظامُ الشّقق هُنا يفْصل مابين دورة المياه وبيْن غُرف الاسْتحمام – ..

يحذبُها النّور هيَ وأنا أبْتسمُ لهذه الرّفيقة ذات الأجْنجة المُلوّنة ..

أبحثُ عنْها حين لا تأتي وأتذكُر حديث صديقي بعْد أن انْتقل إلى بيت آخر وافتقد ذاكَ الشّغب العصَافيري / الصّباحي .. !

***

لمْ أعُد أذْهب لذاك المقْهى الذي ترافقنا إليه كثيراً مسَاءات نهاية الأسْبوع، ولا أزور جارتْنا المهوُوسة بتثْبيت الأزْرار .. ولا المكوجي الذي كان يعرفُ هوسي بألا يلمِس ملابسي أحدٌ لا أعرفُه ..

أتذكرُ كيف كنتُ أقفز إلى الرّصيف بعد كلّ خطوتين ثم أعود إلى الشّارع مرّة أخرى؟ .. كان يضحكُك هذا كثيراً، .. لقد توقفتُ عنْ ذلك أيضاً ..

انتقلتُ لمكان بعيد .. لا شيْء يعُض حكاياتِ القلب القديمة ولا يشدُ رمْش الجفن عنْ صُورة ذات أرْواح ..

على أعْتاب أرض خضْراء أقفْ .. تنْسدل على قامتي ثيابٌ بلوْن الحرير .. تلتمعُ في عيْن الضّوء هُناك ..

أجُر وراء جانبي الأيْسر ذيلاً طويلاً منْ ذاكرة الحَرائق الشهيّة .. !

* رحمة شكري – نيروبي

تعليق واحد

تعليقك هنا